سورة غافر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين كفروا يُنَادَوْنَ} يوم القيامة، من قِبل الخزنة وهم في النار: {لَمقْتُ الله} إياكم اليوم، وإهانته لكم، {أكْبرُ من مقتكم أنفسَكُم} في الدنيا، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان، {إِذْ تُدْعَون إلى الإِيمان} من قِبَل الرسل {فتكفرون}، والحاصل: أنهم مقتوا أنفسهم في الدنيا، وأهانوها، حيث لم يؤمنوا، فإذا دخلوا النار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك، ف إذا: ظرف للمقت الثاني، لا الأول، على المشهور.
{قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} أي: إماتتين وإحياءتين، أو: موتتين وحياتين. قال ابن عباس: كانوا أمواتاً في الأصلاب، ثم أحياهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بُد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ...} [البقرة: 28] الآية. قال السدي: أُميتوا في الدنيا، ثم أُحْيوا في قبورهم للسؤال، ثم أُميتوا في قبورهم، ثم أُحيوا في الآخرة.
والحاصل: أنهم أجابوا: بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية: ألاَّ حياة بعد بالموت، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم، وداموا على الإنكار، فلمّا رأوا الأمر عياناً، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله: {قالوا ربنا...} إلخ لما قبله: الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث، الذي أوجب لهم المقت والعذاب؛ طمعاً في الإرضاء له بذلك؛ ليتخلصوا من العذاب، ولذلك قالوا: {فاعترفنا بذنوبنا}، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّر عليهم، عَلِموا أن الله قادر على الإعادة، كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما يتبعه من جرائمهم. ومقصدهم بهذا الإقرار: التوسل بذلك إلى ما علَّقوا به أطماعهم الفارغة من الرجوع إلى الدينا، كما صرّحوا به في قولهم: {فهل إلى خُروج} أي: نوع من الخروج، سريع أو بطيء، {من سبيلٍ} أو: لا سبيل إليه قط. وهذا كلامُ مَن غلب عليه اليأس، وإنما يقولون ذلك تحيُّراً، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه، ولذلك أُجيبوا بقوله: {ذلِكُم} أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وألاَّ سبيل إلى الخروج، {بأنه} أي: بسبب أن الشأن {إِذا دُعِيَ الله} في الدنيا، أي: عُبد {وَحْدَه} منفرداً {كفرتم} بتوحيده، {وإِن يُشْرَكْ به تؤمنوا} بالإشراك وتُسارعوا فيه، أي: كنتم في الدنيا تكفرون بالإيمان، وتُسارعون إلى الشرك. قيل: والتعبير بالاستقبال، إشارة إِلى أنهم لو رُدوا لعادوا، وحيث كان حالكم كذلك، {فالحُكم لله} الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضي إلا بما تقتضيه حكمته، {العَلِيّ} شأنه، فلا يُردّ قضاؤه، أو: فالحكم بعذابكم وتخليدكم في النار لله؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه، {الكبير}: العظيم سلطانه، فلا يُحدّ جزاؤه. وقيل: إنَّ الحرورية أَخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذه الآية.
قال عليّ رضي الله عنه لَمَّا سمع مقالتهم: كلمة حق أُريد بها باطل. اهـ.
الإشارة: إِنَّ الذين كفروا بطريق الخصوص، وأنكروا وجود التربية، حتى ماتوا محجوبين عن الله، وبُعثوا كذلك، يُنادون يوم القيامة بلسان الحال: لمقتُ الله لكم اليوم حيث سقطتم عن درجات المقربين أكبرُ من مقتكم أنفسكم حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان، حين كنتم تُدْعون إلى تربية الإيمان، وتحقيق الإيقان، على ألسنة شيوخ التربية، فتكفرون وتقولون: انقطعت التربية منذ زمان، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم، فيقال لهم: هيهات، قد فات الإبّان، الصيفَ ضيعتِ اللبن. فامكثوا في حجابكم، ذلك بأنه إذا دُعي الله وحده، وأن لا موجود سواه، كفرتم بإنكاركم سبيله، وهي طريق التجريد والتربية، وإن يُشرك به بالتعمُّق في الأسباب، والمكث فيها، تؤمنوا. والحاصل: أنهم كانوا يُنكرون طريق التجريد، ويؤمنون بطريق الأسباب، فالحُكم لله العلي الكبير، فيرفع مَن يشاء، ويضع مَن يشاء بعلوه وكبير شأنه.


يقول الحق جلّ جلاله: {هو الذي يُريكم آياته} الدالة على كبريائه، وكمال قدرته، من الرياح، والسحاب، والرعد، والبرق، والصواعق، وغير ذلك، لتستدلوا على ذلك، وتعملوا بموجبها، فتُوحدوه تعالى، وتخصُّوه بالعبادة، {ويُنزّل لكم من السماء رزقاً}؛ مطراً؛ لأنه سبب الرزق. وأفرده بالذكر مع كونه مِن جملة الآيات؛ لتفرُّده بكونه من آثار رحمته، وجلائل نِعَمه الموجبة للشكر؛ إذ به قوام الحيوانات بأسرها. وصيغة المضارع في الفعلين؛ للدلالة على تجدُّد الإراءة والتنزيل، واستمرارهما. {وما يتذكَّرُ إِلا مَن يُنيب} أي: وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة، ويعمل بمقتضاها إلا مَن يتوب ويرجع عن غيّه إلى الله تعالى، فيتفكّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة، ونِعَمه الشاملة. وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر؛ لسفح الران على قلبه.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، من اختصاص التذكير بمَن ينيب، {فادْعُوا الله}، أو: تقول: لَمَّا ذكر أحوال المشركين، وأراد أن يشفع بأضدادهم، جعل قوله: {هو الذي يُريكم آياته...} إلخ، توطئة لقوله: {فادعوا الله} أي: اعبدوه {مخلِصين له الدين} من الشرك الجلي والخفي، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم، {ولو كَرِه الكافرون}؛ وإن غاظ ذلك أعداءكم، ممن لم يتب مثلكم، فإن الله يُكرم مثواكم، ويرفع درجاتكم، فإنه {رفيعُ الدرجات} أي: رافع درجات أوليائه المؤمنين، الداعين إليه، المخلصين في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالعز والنصر، وفي الآخرة بالقُرب والاختصاص، أو: رفيع السموات التي هي مصاعد الملائكة، ومهابطها، للسفارة بين المرسِل والمرسَل إليه، وهو كالمقدمة لقوله: {يُلقي الروح...} إلخ. هذا على أنه اسم فاعل، مبالغة، وقيل: هو صفة مشبهة أُضيفت إلى فاعلها، أي: رفيعٌ درجاتُه بالعلو والقهرية.
{ذو العرش} أي: مالكه، وهما خبران آخران عن {هو الذي...} إلخ، إيذاناً بعلو شأنه، وعِظم سلطانه، الموجبين لتخصيص العبادة به، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما؛ فإنَّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش مع كون العرش محيطاً بأكناف العالم العلوي والسفلي، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضي بكون علو شأنه وعظيم سلطانه في غاية لا غاية ورائها. قاله أبو السعود.
ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله: {يُلقي الروح} أي: ينزل الوحي، الجاري من القلوب بمنزلة الروح من الأجسام، وكأنه لَمَّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح، الذي هو العلم بالله، وطريقُه الوحي. والتعبير بالمضارع، قال الطيبي: يفيد استمرار الحي من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادي، بإقامة مَن يقوم بالدعوة، على ما روى أبو داود، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مائةِ سنَة مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها»
ومعنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُنَّة، والأمر بمقتضاهما. اهـ.
قلت: وقد رزتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه مرة، فلما وقع بصره عليّ، قال: واللهِ، حتى يُحْيي الله بك الدين المحمدي. وكتب لي شيخ الجماعة، وقطب دائرة التربية، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه، فقال في آخر كتابه: وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعياً إلى الله، تُذكّر أهل المشرق والمغرب. أو ما هذا معناه، وقد وقع ذلك، والحمد لله.
وقوله: {مِنْ أَمره} أي: من قضائه، أو: بأمره، فيجوز أن يكون حالاً من الروح، أو متعلقاً ب (يُلقِي) أي: يُلقِي الروح حال كونه ناشئاً، أو: مبتدئاً من أمره، أو: يُلقي الوحي بسبب أمره {على مَن يشاءُ من عباده} هو الذي اصطفاه لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى عباده، {ليُنذر} أي: الله، أو: المُلْقَى عليه، وهو النبي عليه السلام، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب، أي: لتخوُّف {يومَ التلاقِ}؛ يوم القيامة؛ لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض، والأولون والآخرون، و{يوم}: ظرف للمفعول الثاني، أي: ليُنذر الناسَ العذابَ يوم التلاق، أو: مفعول ثان ليُنذر، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار.
{يوم هم بارزون}: بدل من {يوم التلاق} أي: خارجون من قبورهم، أو: ظاهرون، لا يستترون بشيء من جبل أو أكمة أو بناء؛ لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفاً، ولا عليهم ثياب، إنما هم حفاةٌ عراةٌ، كما في الحديث. أو: بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان، أو: بارزة أعمالهم وسرائرهم، {لا يخفى على الله منهم شيءٌ} من أعمالهم وأحوالهم، الجلية والخفية، السابقة واللاحقة، وهو استئناف لبيان بُروزهم، وإزاحة لِما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً، فإذا برزوا وحُشروا، نادى الحق جلّ جلاله: {لمَن الملكُ اليومَ}؟ فلا يجيبه أحد، ثم يعود ثلاثاً، فيجيب نفسه بنفسه بقوله: {لله الواحدِ القهارِ} أي: الذي قهر العباد بالموت.
رُوي أن الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد، في أرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة، لم يُعصَ الله عليها قط، فأول ما يُتكلم به أن يُنادي مناد: لِمن المُلكُ اليوم؟ فيجيب نفسه: لله الوحد القهّار. وقيل: المجيب أهلُ المحشر، ورُوي أيضاً: أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث، ولعله يقال مرتين.
قال تعالى: {اليوم تُجزَى كلُّ نَفْس} من النفوس البرّة والفاجرة، {بما كسبتْ} من خير أو شر، وهذا من تتمة الجواب، أو: حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب، {لا ظُلمَ اليومَ} بنقص ثواب أو زيادة عذاب، {إِن الله سريعُ الحساب}؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن، فكما أنه يرزقهم دفعة، يُحاسبهم دفعة، فيحاسب الخلق قاطبة في أقرب زمان، كما نُقل عن ابن عباس: أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقِلْ أهلُ الجنة إلا فيها، وأهل النار إلا فهيا. اهـ.
قلت: المراد بالحساب: إظهار ما يستحق كل واحد من النعيم أو العذاب، وأما ما ورد من طول المكث في المحشر على الكفار والفجّار؛ فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هو الذي يُريكم آياته الدالة على توحيده، ويُنزل لكم من سماء الغيوب علماً، تتقوّت به قلوبكم وأرواحكم، فتغيبون في مشاهدة المدلول عن الدليل، وما يتذكّر بهذا ويهتدِ إليه إلا مَن يُنيب، ويصحب أهل الإنابة. فادعوا الله، أي: اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل، ولو كره الجاحدون، فإنَّ الله رفيع درجاتِ الداعين إليه مع المقربين، في مقعد صدق عند ذي العرش المجيد. قال القشيري: يرفع درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا، فيرفع درجتهم عن النظر إلى الكونين، والمساكنة إليهما، وأما المحبُّون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئاً غير رضا محبوبهم. اهـ.
يُلْقِي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده، هو وحي أحكام للأنبياء، ووحي إلهام للأولياء، فيحيي الله بهم الدين في كل زمان، وقال القشيري: بعد كلام: ويقال: روح النبوة، وروح الرسالة، وروح الولاية، وروح المعرفة. اهـ. والمراد بالروح: مطلق الوحي، ليُنذر الداعي يومَ التلاقي، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين، ويحصل الافتراق والبُعد للغافلين، حين تبرز الخلائق بين يدَي الله، لا دعوى لأحد يومئذ، فيقول الحق تعالى: {لمَن الملك اليوم لله الواحِد القهَّار}.
قال القشيري: لا يتقيّد مُلْكُه بيومٍ، ولا يختصُّ بوقتٍ، ولكنَّ دَعَاوَى الخلقِ اليوم لا أصلَ لها، ترتفع غداً، وتنقطع تلك الأوهام. اهـ. ومثله في الإحياء، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك، كما كان كل يوم، لا في خصوص ذلك اليوم. فإذا حصل للعبد مقام الفناء، لم يرَ في الدارين إلا الله، فيقول: لمَن المُلكُ اليوم؟ فيجيب: لله الواحدِ القهّار. اليوم تُجزَى كُلُّ نفس بما كسبت من التقريب أو الإبعاد. قال القشيري: يجازيهم على أعمالهم الجنانَ، وعلى أحوالهم الرضوان، وعلى أنفاسهم أي: على حفظ أنفاسهم القُرب، وعلى محبتهم الرؤية، ويجازي المذنبين على توبتهم الغفران، وعلى بكائهم الضياء والشفاء. اهـ. لا ظُلم اليوم، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله سريعُ الحساب} قال القشيري: وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال، يُطالبهم بالنقير والقطمير. اهـ. قلت: يدقق عليهم الحساب في الحال، ويرفع مقدارهم في المآل. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {وأنذِرْهُم يوم الأَزفةِ} أي: القيامة، سُميت بها لأزوفها، أي: قُربها. فالأُزوف والازدلاف هو القرب، غير أن فيه إشعاراً بضيق الوقت، أو الخطة الأزفة، وهي مشارفة أهل النار لدخولها، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله: {إِذِ القلوبُ لدى الحناجر} أي: التراقي، يعني: ترتفع قلوبُهم عن مقارّها، فتلتصق بحناجرهم من الرعب، فلا هي تخرج فيموتوا فيستريحوا، ولا ترجع إلى مقارها فيتروّحوا. حال كونهم {كاظمين}؛ ممسكين الغيظ بحناجرهم، أو: ممسكين قلوبهم بحناجرهم، يرومون ردها لئلا تخرج، فهو حال من القلوب، وجمعت جمع السلامة لوصفها بالكظم، وهو من أوصاف العقلاء، أو: من أصحاب القلوب؛ إذ الأصل: قلوبهم، أو: من ضميرها في الظرف، {ما للظالمين من حميمٍ} أي: قريب مشفق {ولا شفيعٍ يُطاع} أي: ولا شفيع تُقبل شفاعته، فالمراد: نفي الشفاعة والطاعة، كقول الشاعر:
وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِرْ ***
يريد به: نفي الضب وانجحاره. وكقول الآخر:
عَلَى لاحِبٍ لا يُهتدَى بِمَنَارِه ***
وإن احتمل اللفظ نفي الطاعة دون الشفاعة. فعن الحسن البصري: «والله ما يكون لهم شفيع ألْبتة». ووضع {الظالمين} موضع الضمير؛ للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به.
{يعلم خائنةَ الأعين} أي: النظرة الخائنة، كاستراق النظر إلى ما لا يحلّ. قيل: فيه تقديم وتأخير، أي: الأعين الخائنة، وقيل: مصدر، كالعافية، أي: خيانة الأعين. قال ابن عباس رضي الله عنه: هو الرجل يكون جالساً مع القوم، فتمر المرأة، فيسارقهم النظر إليها. اهـ. وقال ابن عطية: متصل بقوله: {سريع الحساب}، فيحاسب على خيانة الأعين، وقالت فرقة: متصل بقوله: {لا يَخفى على الله منهم شيء}، وهذا حسن، يُقويه تناسب المعنيَيْن، ويُبعده بعدُ الآية من الآية، وكثرة الحائل. والحاصل: أنه متصل بما تقدّم من ذكر الله ووصفه، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله: {ليُنذر يوم التلاق} الآية. قاله المحشي. {و} يعلم {ما تُخفي الصدورُ} أي: ما تُكنّه من خيانة وأمانة. وقيل: هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوةٍ مسارقة، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها، ولا يعلم بنظرته وفكرته مَن حَضرَه، والله يعلم ذلك كله.
{والله يقضي بالحق} أي: ومَن هذه صفاتُه لا يقضي إلا بالعدل، فيُجازي كُلاًّ بما يستحقه؛ إذ لا يخفى عليه خفيّ ولا جليّ، {والذين يَدْعُون}؛ يعبدونهم {من دونه} من الآلهة {لا يقضون بشيء}، وهذا تهكُّم بهم؛ لأن الجماد الذي لا يعقل لا يقال فيه: يقضي ولا يقضي، وقرأ نافع بالخطاب؛ أو: على إضمار قل، {إِن الله هو السميعُ البصير}؛ تقرير لقوله: {يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور} ووعيد لهم؛ لأنه يسمع ما يقولون، ويُبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دون الله، بأنها لا تسمع ولا تُبصر.
الإشارة: قال القشيري: قيامةُ الكل مؤجَّلة، وقيامةُ المحبين مُعَجَّلة، في كلِّ نَفَسٍ من العتاب والعذاب، والبعَاد والاقتراب، ما لم يكن في حساب، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد، وخفَقَانُ القلب ينطق، والنحولُ يُخْبِرُ، واللونُ يفضح، والعبد يستر، ولكن البلاء يُظهر، قال:
يَا مَن تَغَيَّرُ صُورَتِي لَمَّا بَدا *** لِجَمِيعِ ما ظَنوا بِنَا تَحْقِيقُ
وقوله تعالى: {إِذِ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمين}، هو في حق مَن فاته التأهُّب والترقِّي في هذه الدار، فتحسَّر حين يُعاين مقامات الرجال، وليس له شفيع يُرقيه، ولا حميم يُصافيه. وقوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} هو في حق العارفين: النظر إلى السِّوى بعين الاستحسان. قال القشيري: خائنة الأعين هي من المحبين استحسانهم شيئاً أي: من السِّوى وأنشدوا:
يَا قُرَّةَ العَيْن سَلْ عَيني هَلْ اكْتَحَلَتْ *** بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي
وأنشد أيضاً:
وعَيْني إِذا اسْتَحْسَنَتْ غَيْرَكُمْ *** أَمَرْتُ الدَّمعَ بِتأدِيبها
قلت: ومثله قول الشاعر:
وناظرٌ في سِوى مَعْناكَ حُقَّ لَهُ *** يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِه بالدَّمْع وهُو دَمُ
والسَّمْعُ إِنْ حَالَ فِيهِ ما يُحدِّثُه *** سوَى حَدِيثكِ أَمْسى وَقْرُه الصَّمَمُ
ثم قال: ومن خائنة الأعين: أن تأخذهم السِّنَةُ والسِّنات في أوقات المناجاة، وفي قصص داود عليه السلام: كَذَبَ مَن ادَّعَى محبتي، فإذا جَنَّهُ الليل نام عني، ومن خائنة أعين العارفين: أن يكون لهم خير، أي: استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم، ينظرون ولكن لا يُبصرون أي: ينظرون إلى المستحسنات، ولكن لا يقفون معها ومن خائنة أعين الموحِّدين أي: السائرين للتوحيد أن يخرج منها قطرة دمعٍ، تأسفاً على مخلوق يفوت من الدنيا والآخرة، ومن خائنة الأعين: النظرُ إلى غير المحبوب بأَي وجهٍ كان، ففي الخبر: حُبَّكَ الشيء يُعْمِي ويُصمُّ أي: يُغَيبك عن غيره، فلا ترى إلا محاسن الحبيب، وجماله في مظاهر تجلياته، وإليه يشير قول ابن الفارض رضي الله عنه:
عَيْنِي لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظر *** وَسِوَاكُم في خَاطِري لاَ يَخْطُر
وقوله تعالى: {والله يقضي بالحق} قال القشيري: يقضي للأجانب بالبعاد، ولأهل الوداد بالوصال، ويقضي يومَ القدوم بعدل عُمال الصدود. اهـ. أي: يعدل في أهل الصدود عن حضرته، فيجازيهم بنعيم الأشباح فقط. ثم قال: وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح، فلا غَرو أن يذبح الفراق على رأس سكة الأحباب، في صورة شخص، ويُصلب على جذوع الغيرة، لينظر إليه أهل الحضرة. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8